ما أن يلقي المرء نظرة عامة على صورة العالم اليوم، حتى ينتابه الغم وتثبط همته. فمعظم الأميركيين على وعي بالفوضى الضاربة في العراق، وبطموحات إيران الإقليمية والنووية، ثم إن معظمهم على علم كذلك باحتمال توسع دائرة النزاع الشيعي- السُّني لتطال منطقة الشرق الأوسط بأسرها. وفي الجانب الآخر، هناك التراجع السياسي الملحوظ في روسيا، فهي تستخدم ثروتها النفطية لتلوي بها ذراع جمهورية بيلاروسيا ومجمل شركات النفط الغربية المستثمرة فيها، بينما يسود اعتقاد بأنها تنتهج أسلوب وتكتيكات العصابات لإخراس منتقديها في الداخل والخارج على حد سواء. أما في منطقة شمالي شرق آسيا، فتتنامى النزعة القومية، التي تشتبك جراءها الأجيال الحديثة الشابة من اليابانيين والصينيين والكوريين، بسبب أخطاء تاريخية ارتكبت قبل ما يزيد على نصف قرن. وفي هذه الخصومات والاشتباكات ما يعيق التعاون الإقليمي على مواجهة الخطر المحدق الذي تمثله أسلحة بيونج يانج النووية. وفي النصف الجنوبي من قارتنا الأميركية، جرى انتخاب القادة الشعبويين المُعادين لأميركا، في كل من فنزويلا وبوليفيا والإكوادور. وما أن وصل هؤلاء إلى سدة الحكم، حتى انهمكوا في تركيز السلطات بأيديهم، وعكس مسار تيار عقد التسعينيات، الذي كان متجهاً صوب الانفتاح والتكامل الاقتصادي مع النصف الشمالي من القارة. وعلى امتداد العالم كله، ها نحن نرى الطغاة يتعلمون ويتبادلون دروس القهر والبطش فيما بينهم. وكانت تلك الظاهرة السياسية التي سمَّاها المفكر السياسي صمويل هنتينغتون بـ"موجة التحول الديمقراطي الثالثة"، قد بدأت في عقد السبعينيات لتبلغ أوجها بانهيار المعسكر الاشتراكي في مطالع عقد التسعينيات. بيد أن من الواضح الآن أن هذه الموجة قد خمدت وهدأت. واحترازاً من صعود موجة ديمقراطية جديدة، من طراز الثورة البرتقالية الأوكرانية في عام 2004، تسابقت كل من روسيا ومصر وسوريا وفنزويلا في إصدار تشريعات جديدة قصد بها قفل الطريق أمام أي تمويل أجنبي للجماعات الوطنية المؤيدة للتحول الديمقراطي. وتحت سطح هذا التيار السلبي المثير للقلق، يكمن انحسار ذلك الامتياز الذي طالما تمتع به النموذج الديمقراطي الأميركي. فمنذ الحرب على العراق فلاحقاً، بدأ يرمز إلى هذا النموذج بسجناء "أبو غريب" معصوبي العينين، أكثر مما يرمز إليه بواسطة تمثال الحرية الشهير! لكن قبل أن يستبد بنا أكثر الشعور باليأس والإحباط إزاء صورة العالم في مطالع عام 2007 الجديد، فإنه حري بنا الوقوف برهة لتأمل سياق أوسع، تبدو فيه الأشياء أكثر مدعاة للتفاؤل. وإحدى أوضح الحقائق وأقلها حظوة بالاهتمام في ذات الوقت، فيما يتصل بصورة عالمنا المعاصر، هي دورة عجلة الاقتصاد العالمي بملء سرعتها. وبفعل هذه الحقيقة فقد ارتفعت مستويات الحياة المعيشية بصفة عامة، بينما ضاقت الهوة الواسعة التي تفصل بين العالمين الأول والثالث، أكثر من ذي قبل. وبفعلها أيضاً، واصل اقتصادا أعلى دولتين كثافة سكانية -الهند والصين- نموهما المطرد خلال السنوات القليلة الماضية، حيث بلغت فيهما نسبة النمو السنوي، 9 في المئة و10 في المئة على التوالي. بل لقد استطاعت منطقة شرقي آسيا برمتها، استعادة حرارة نموها الاقتصادي المعهودة، بعد عقد واحد فحسب من الأزمة المالية التي مرت بها في عام 1997-1998. إلى ذلك واصلت بقية أنحاء العالم نموها الاقتصادي المنتظم. فعلى رغم حالة عدم الاستقرار التي تمر بها منطقة أميركا اللاتينية، وكذلك ردة الفعل على الليبرالية الجديدة التي تهزها، فإن معظم دولها، واصلت نموها الاقتصادي المنتظم، بنسب سنوية تراوحت في متوسطها بين 4 إلى 5 في المئة. وحتى في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، فقد بلغت نسبة النمو السنوي المستقر، ما يزيد على 5 في المئة، بعد عقود شهدتها من الكساد والتباطؤ الاقتصاديين. ومما يزيد اندفاع هذا التيار قوة وعنفواناً، تنامي التجارة والتبادل جنوب- جنوب، نتيجة لاستهلاك كل من الصين والهند للسلع والموارد الطبيعية المستوردة من أميركا اللاتينية وأفريقيا. وعدا عن هذا النمو الاقتصادي الملحوظ، فإن مطالع القرن الحادي والعشرين، لم تكن وديعة ولا سلمية بأي حال، وهذا هو أكثر ما يلفت النظر فيها. فهناك هجمات 11/9 المروعة على الولايات المتحدة الأميركية. وهناك سلسلة التفجيرات التي ضربت كلاً من لندن ومدريد وإسطنبول وجزيرة بالي. وهناك أعوام المأزق الشرق أوسطي وأفغانستان. وقد أدت هذه الأحداث جميعها، إلى حدوث ارتفاع مهول في أسعار السلع والخدمات. ولذا فإن هناك من يجادل بأن هذه الصورة الاقتصادية الخارجية الزاهية، إنما تخفي تحتها، تلالاً من الوهن ومكامن الضعف، لاسيما فيما حدث لبرجي مركز التجارة العالمي، وعجز الموازنات، وكذلك تراجع حجم ودائع الدولارات في البنوك المركزية الأجنبية. ولا غرو أن تثير هذه الظواهر الدالة على عدم التوازن في الاقتصاد العالمي، قلق الكثيرين، على رغم الجهل الغالب بمصادرها. ومهما يكن، فإنه ليس في وسع النمو الاقتصادي وحده أن يؤمِّن استقرار العالم، تماماً مثلما عجزت العولمة الاقتصادية السابقة لعام 1914 عن الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الأولى. بيد أن هناك أسباباً معقولة تحمل المرء على الاعتقاد بمغالاتنا في تقدير المخاطر على الاستقرار العالمي، عقب وقوع هجمات 11/9. والحقيقة أن هذه المغالاة نفسها، ولدت مخاطر جديدة بدورها. وليس أدل على ذلك من غزونا للعراق، متأثرين بغلو ردة الفعل هذه. وما أن فعلنا، حتى أسهمنا في خلق دوامة من المصاعب والمشكلات ما كنا بحاجة إليها أصلاً، وأنشأنا بذلك ملاذاً آمناً جديداً للإرهابيين بمحض إرادتنا، بينما سهلنا ميل كفة ميزان القوى الإقليمية في منطقة الخليج لصالح إيران. على أن قوى التوازن الإقليمي لا تزال تعمل تحت السطح. وغافل من ظن أن العالم السُّني يجلس مكتوف اليدين ويواصل الفرجة والنظر إلى تنامي النفوذ الشيعي الإيراني في المنطقة. وعلى رغم وجاهة الأسباب التي تدفعنا لمنع الدول "المارقة"، كما هو حال كوريا الشمالية وإيران، من الحصول على الأسلحة النووية، إلا أنه لم تتضح بعد الأسباب التي دفعت البعض للاعتقاد الخاطئ بعدم فاعلية سياسة الردع، وقدرتها على لجم هذه الدول! فليس ثمة خطر على الأمن الدولي، يفوق كارثة الانتشار النووي، وما يلازمها من سوء تقديرات، وبروز قوى نووية جديدة، مصحوبة برغبات القوى الأخرى بمباغتتها وتوجيه ضربات احترازية لها. أما في مجال السياسات النفطية، فإن مما لا ريب فيه أن سلوك الطغاة المستقوين بالنفط، يثير القلق والمخاوف على المدى البعيد. إلا أن هذه السياسات، لا يرجح لها أن تستمر وتستديم. وإذا كان قادة كل من روسيا وفنزويلا وإيران، قد تجاسروا وتطاولوا على القوانين الدولية الاقتصادية المتعارف عليها، فما ذلك إلا لكونهم المستفيد الأول من ارتفاع أسعار النفط العالمي. ولكن شهد يوم الجمعة الماضي، انخفاضاً ملحوظاً في أسعار النفط الخام، من 75 دولاراً للبرميل الواحد في العام الماضي، إلى 57 دولاراً فحسب. وقد دفع الارتفاع الأخير الذي شهدته أسعار النفط العالمي، المزيد والمزيد من المستهلكين إلى تبني سلوك المحافظة على الطاقة، أو إلى خيار مصادر الطاقة البديلة المتجددة. وحتى بشأن العراق، فإنه ليس هناك ما يبرر كل هذا التشاؤم. ولاشك أن إدارة بوش قد تسببت بكمٍّ هائل من الفوضى هناك، وأنها تعد مسؤولة عن نشأة قاعدة إرهابية جديدة في محافظة الأنبار، في الوقت الذي ذللت فيه الطريق أمام بروز النفوذ الشيعي الإيراني في منطقة الخليج. ولكن غاب عن أنظارنا فيما يبدو، أن هذه الحرب الأهلية التي أمسكت بتلابيب العراق، تخوضها مجموعتان إسلاميتان راديكاليتان، لهما حساباتهما ومصالحهما الخاصة في خوض هذا النزاع، أكثر من توجيه سهامهما إلى نحر الولايات المتحدة الأميركية. وعلى رغم أن هذا لا يعفي واشنطن من مسؤوليتها الأخلاقية إزاء نشأة وضع تناحري داخلي كهذا، إلا أن لهذا النزاع قوى توازنه الذاتية الداخلية، على صعيد المنطقة بأسرها. وهذا ما يقلل حجم الضرر الذي يلحقه بالمصالح الحيوية الأميركية، ما أن نكف عن الخوض فيه وننسحب في يوم ما. خلاصة القول، إنه ليس هناك ما يبرر المغالاة في التشاؤم عند النظر إلى صورة عالمنا المعاصر. بل الصحيح أن في هذه المغالاة كل الخطر. وعلى رغم كل الكبوات التي مرت بها أميركا خلال السنوات الأخيرة الماضية، إلا أنها لا تزال عملاقاً قوياً ودولة غنية. ولذلك فهي لا تزال تتمتع بما يكفي من هامش المناورة، لامتصاص صدماتها وانتكاساتها السابقة، وما يكفيها أيضاً لتصحيح الأخطاء والكبوات. فرانسيس فوكوياما أستاذ بكلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"